بهموم مثقلا اليومي غادرت بيتي، أجر ورائي أذيال خيبتي: فواتير ماء قد تأخرت تسويتها، لأن مستحقاتي الوظيفية لم يتم تسريحها، كهرباء يهددونني بقطع تياره، والشهر لا زال على أبوابه، ثلاجتي المسكينة "تموت جوعا"، أطفالي بلا مرخ زغب الحواصل لا غطاء وزوجتي المسكينة بلا دواء...باختصار لم يتبق بالبيت لا زيت ولا خبز، ولم يعد لأي درص (ابن الفأرة) ما يعلق بضرسه ( إن كانت له أضراس ) ولا أي سبب لزيارتي، ومع ذلك عن الناس كنت أستر حالي، مرة أبكي، وأخرى أضحك على ما كان مني وما سيقع لي. في هكذا أمور كنت مشغول البال، عندما تركت معتقلي -أقصد بيتي-. في "طريقي إلى طويل العمل" أقصد "الطريق إلى العمل الطويل"، والله لم أعد أعرف كيف أركب هذه الجملة: هل الطريق هو الطويل؟ أم العمل هو...؟ أم أن العمل هو الطريق؟ أو ربما هي كل لا يريح البدن على الإطلاق...ا؟. المهم، قابلني شخص محترم، وبكل أدب قال لي:
- صباح الخير، كم الساعة يا أستاذ؟.
وبما أنني -كباقي الأساتذة– يعجبني سماع هذه التسمية التي تذكرنا بوجاهة ونخوة العلماء (بين العامة وحتى الأمراء)، أجبته بأدب أقنعه بألا أدب يعلو على أدبي:
- صباح الفل والياسمين، الساعة يا سيدي ومولاي الشريف، كما أرى تشير بعقربها الصغير نحو السابعة، وبالكبير – كبرنا الله على طاعته – صوب نصفها (ابتسمت في وجهه) إذن هي السابعة والنصف.
تابعت مشواري في المليون خطوة، الذي لا أعرف من أين تبتدئ خطوته الأولى، ذهبت كالمعتاد لتناول صحن فول - قد أدمنته معدتي، تنوء إذا لم يلج أمعائها -، فإذا بي أجدني وجها لوجه مع ذاك الذي سألني كم الساعة، يصب لي صحني، ويناولني قطعة خبز، لعنت الشيطان في سري وعلني، بكفي فركت جفني، تأملته، قلت له:
- ألست الذي – قبل قليل – سألني ...؟.
بسرعة خاطفة قاطعني:
- السؤال لغير الله مذلة، لست أنا من...ا.
ثم رمقني بجحوظ، وعلق على باب المطعم لافتة كتب عليها "الطلق ممنوع والرزق على الله". أديت ثمن طبق فولي الحار، وانصرفت والوسواس يغلي في دماغي، نحوه التفت ثانية لأتبين إن كان بلباس المخلوق الآخر، لكن لا وجه للشبه بينهما، فملابس الأول لم تكن بيضاء ولا ملطخة بالزيوت. قلت في جهري إنه صداع الرأس، قد استجمع قواه وعاد ليدمرني بقنابل "هلوساته" البصرية. قصدت الصيدلية لشراء دواء مهدئ لأعصابي التي أعرف أنها لا ولن تهدأ، وقد تزداد تشنجا مع حلول الشهر. طالبت الصيدلي بالدواء، وجدته نفس الشخص السابق، في وجهه صحت:
- أتريد أن تجنني يا هذا؟.
أجابني، ما بك يا سيدي؟ ما الذي أزعجك؟.
في وجهه صحت ثانية:
ألست الذي...؟ والذي...؟.
بحنان أمسك أكتافي، وبكل هدوء رد عليّ:
- أظن أن الدواء الذي طلبته، لن يجدي في حالتك هذه، أنصحك باستشارة الطبيب، يا سيدي.
خفت أن يبلغ عني مستشفى المجانين، فهرولت إلى الخارج، ولأول مرة في حياتي استوقفت سيارة الأجرة، لست أدري كيف فعلت ذلك، وليت أني ما استوقفتها: ألقيت بجسدي بداخلها وقلت للسائق:
- مدرسة "الرجاء في الله" الأخيرة على اليسار.
انطلق بسيارته، وبعد برهة استدار نحوي محييا:
- صباح الخير، كم الساعة يا أستاذ؟
رفعت أنفي تقززا، وضجرا، وبوجه عابس أجبته:
- والله يا سيدي، لست أدري إن كان صباحي سيكون خيرا، فالعربون بان من أوله.
ولما هممت بقص الحكاية عليه، وجدته من نفس فصيلة الشخص الأول، وكأنهم مستنسخين مثل النعجة "دولي".
هذه المرة لم أصرخ ولم أرغي وما أزبدت، تركته يسوق سيارته ويسقوني إلى مدرستي كي أستأذن المدير في رخصة، فما عاد الأمر يقبل التأجيل، زيارة الطبيب أصبحت ضرورة ملحة لا مناص منها، وإلا سينهار البيت على من فيه. وصلت إلى مدرستي، - فاوضت السائق على أجرته - ولما دخلت إدارتها وجدت المدير بالمرحاض يغني مع أمعاءه مواويل. انتظرته حتى يكمل كتابة مراسلته التي سيبعثها إلى قنوات الصرف الصحي. ولما استبدل كرسي المرحاض المخروم بكرسي مكتبه، ولما استدار نحوي (على كرسيه الدوار) قال لي:
- صباح الخير، كم الساعة يا أستاذ؟.
وجدته وقد تحول إلى صنف الشخوص التي لها وجه واحد، في التو أغمي عليّ، ما عدت أتحمل المزيد، ولم أدر إلا برائحة بصل تخنق أنفاسي، ويد شخص تمتد نحوي، من خلال موج الجنون تنتشلني، وفي الأخير، وبعد أن تورمت خدي من كثرة الصفع، سمعته يقول لي:
- كلنا واحد... كلنا واحد... لقد شاركت معنا في "القصة الخفية"...، وقصتك قد كتبت، هل تسمح بنشرها؟ أم لا؟.
أخذت نفسا عميقا كي أسترجع روحا كانت على وشك أن تروح، ثم أجبته:
- أوقعتم بيّ، ما عادت قصتي عنكم بخفية، انشروها أو أحرقوها؟.